كانت الفلسفة في العصور القديمة مجموع العلوم المعروفة وقتئذٍ؛ وكان الفيلسوف يحيط بعلوم وقته وفنونه، من لغات وطبيعيات وإلهيات وهندسة وفلك وموسيقى وشرائع وطب وغيرها. وكان الأمر كذلك أو ما يقرب في القرون الوسطى، إذ كان في الطاقة البشرية الإلمام بجملة تلك العلوم والفنون. أما وقد اتسعت المعارف البشرية اتساعها المعهود وتشبعت العلوم العصرية، فقد أصبح في غير مقدور الإنسان أن يجمع معارف عصرنا هذا؛ ولو حاول أن يُلًمَّ ببعضها إلماماً للزمه أن يعيش أضعاف عمره. لذلك استقلّت الفلسفة بتقرير المسائل العامة التي تصل تلك العلوم بعضها ببعض، مثل البحث في أصول الكائنات وطبيعتها والخواص الذاتية لها ومكانها من الوجود وما تصير إليه غايتها، ما عدا أحوال الأجسام وخواصها العرضية فإن البحث فيها من شؤون العلوم الخاصة بها، لأن العلوم الوضعية كلها تشتغل بكل ما يعرض للموجودات من الظواهر والخواص والأغراض، دون حقائق هذه الموجودات وأصل وجودها فإن ذلك من خصائص الفلسفة. والفلسفة علم له صفة خاصة، وهي البحث عن العلل والمبادئ لأن معرفة الأشياء على طريقتين: معرفة بسيطة عامة كما يفهمها كل إنسان، ومعرفة مع الاستقصاء بواسطة المباحث العقلية التي ترتقي بالباحث إلى المبادئ، أو الأصول العالية للأشياء وعللها الأصلية.