«يجبُ أن نمحوَ كلَّ شيء. كلُّ شيء يجب أن يعودَ أبيضَ، كلُّ شيء. يجب أن نكون ألفَ رجلٍ وألف امرأةٍ يخرجون، كلُّ واحدٍ يحملُ محاية كبيرة ونمحو الحيطان والبيوت والوجوه، ولا يبقى، لا يبقى هناك شيء. كل شيء يختفي ويصبح أبيض. أبيض مثل بياض البيضة، مثل بياض العيون، مثل بياض الأبيض». الأبُ موظفٌ في البريد، والابن مُلاكم، يُقتلُ الابنُ في "حرب السنتين"، فيظلُّ الأبُ طيلة ثلاث سنوات ونصف لا يفعل شيئًا إلا أن يُلصق صورًا لابنه على جدران بيته وجدران الحي. ثم يخفت اهتمامه بكل شيءٍ ويعتزل العالم ويخرج بعدها حاملًا سطلًا من الدهان الأبيض ليطلي به الجدران ليمحو عنها كل الكلمات وكل الصور، حتى صورة ابنه،... ترى أيمنحه البياضُ ذلك النسيان الذي يتمناه، أم أنَّ جدران الذاكرة عصيَّةٌ على الطلاء، وكلما أشرق الصبح استعادت بهاءها واستعاد صاحبُ الذاكرة كآبته؟ إلياس خوري، في روايته المتألقة الوجوه البيضاء، تصدى للحرب الأهلية اللبنانية، وتعامل معها بجرأةٍ متميزة، إذ لم يكتف بوصف الفضائع التي جرت، وإنما ذهب أبعد من ذلك: قرأ بعض آثارها ونتائجها على البشر والطبيعة والعلاقات. وإذا كان اللون الأبيض قد استهواه في روايته تلك، فليس لكونه لونًا كاشفًا فقط، وإنما لكونه ضوءًا أيضًا، يُظهِرُ الأشياء على حقيقتها، ويرينا المشهد بكل ما يحفل به من عبث وفجيعةٍ وجنون. لقد فعل إلياس ذلك تاركًا لنا أن نقرأ الظواهر وما وراءها، لكي نفهم ما يجري حولنا ولئلا نكون أدوات في لعبة لا نملك فيها إلا الامتثال والتمثيل. استمع الآن.
Dieser Download kann aus rechtlichen Gründen nur mit Rechnungsadresse in A, D ausgeliefert werden.